الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (63): {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)}{قَالَ} استئناف مبني على حكاية السؤال كأنه قيل: فماذا كان بعد هذا السؤال فقيل قال: {الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي ثبت عليهم مقتضى القول وتحقق مؤداه وهو قوله تعالى: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119] وغيره من آيات الوعيد، والمراد بالموصول الشركاء الذين كانوا يزعمونهم شركاء من الشياطين ورؤساء الكفر، وتخصيصهم بما في حيز الصلة مع شمول مضمونها الاتباع أيضًا لأصالتهم في الكفر واستحقاق العذاب، والتعبير عنهم بذلك دون الذين زعموهم شركاء لإخراج مثل عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام لشمول الشركاء على ما سمعت له، ومسارعتهم إلى الجواب مع كون السؤال للعبدة لتفطنهم إن السؤال منهم سؤال توبيخ وإهانة وهو يستدعي استحضارهم وتوبيخهم بالإضلال وجزمهم بأن العبدة سيقولون هؤلاء أضلونا، وقيل: يجوز أن يكون العبدة قد أجابوا معتذرين بقولهم هؤلاء أضلونا ثم قال الشركاء ما قص الله تعالى ردًا لقولهم ذلك إلا أنه لم يحك إيجازًا لظهوره {رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا} تمهيد للجواب والإشارة إلى العبدة لبيان أنهم يقولون ما يقولون حضر منهم وأنهم غير قادرين على إنكاره ورده و{هَؤُلاء} مبتدأ خبره الموصول بعده، وجملة أغوينا صلة الموصول والعائد محذوف للتصريح به فيما بعد أي الذين أغويناهم، وقوله تعالى: {أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا} هو الجواب حقيقة أي ما أكرهناهم على الغي وإنما أغويناهم بطريق الوسوسة والتسويل لا بالقسر والإلجاء فغووا باختيارهم غيًا مثل غينا باختيارنا، ويجوز أن يكون الموصول صفة اسم الإشارة والخبر جملة أغويناهم كما غيونا ومنع ذلك أبو علي في التذكرة بأنه يؤدي إلى أن الخبر لا يكون فيه فائدة زائدة لأن إغواءهم إياهم قد علم من الوصف. ورد بأن التشبيه دل على أنهم غووا باختيار لا أن الإغواء إلجاء وقوله: إن كما غوينا فضلة فلا تصير ذاك أصلًا في الجملة ليس بشيء لأن الفضلات قد تلزم في بعض المواضع نحو زيد عمرو قائم في داره وقرأ أبان عن عاصم وبعض الشاميين {كَمَا غَوَيْنَا} بكسر الواو، قال ابن خالويه: وليس ذلك مختارًا لأن كلام العرب غويت من الضلالة وغويت بالكسر من البشم {تَبَرَّأْنَا} منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصي هوى من أنفسهم موجهين التبرؤ ومهيئين له {إِلَيْكَ} والجملة تقرير لما قبلها لأن الإقرار بالغواية تبرؤ في الحقيقة ولذا لم تعطف عليه وكذا قوله تعالى: {مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} أي ما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون في نفس الأمر والمآل أهواءهم، وقيل: ما مصدرية متصلة بقوله تعالى: {تَبَرَّأْنَا} وهناك جار مقدر أي تبرأنا من عبادتهم إيانًا وجعلها نافية على أن المعنى ما كانوا يعبدوننا باستحقاق وحجة ليس بشيء وأيًا ما كان فإيانا مفعول يعبدون قدم للفاصلة..تفسير الآية رقم (64): {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)}{وَقِيلَ} تقريعًا لهم وتهكمًا بهم {ادعوا شُرَكَاءكُمْ} الذين زعمتم {فَدَعَوْهُمْ} لفرط الحيرة وإلا فليس هناك طلب حقيقة للدعاء، وقيل: دعوهم لضرورة الامتثال على أن هناك طلبًا، والغرض من طلب ذلك منهم تفضيحهم على رؤوس الأشهاد بدعاء من لا نفع له لنفسه قيل: والظاهر من تعقيب صيغة الأمر بالفاء في قوله تعالى: {فَدَعَوْهُمْ} أنها لطلب الدعاء وإيجابه والأول أبلغ في تهويل أمر أولئك الكفرة والإشارة إلى سوء حالهم وأمر التعقيب بالفاء سهل {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة، وجوز أن يكون المراد فلم يجيبوهم لأنهم في شغل شاغل عنهم ولعلهم ختم على أفواههم إذ ذاك {وَرَأَوُاْ العذاب} الظاهر أن الضمير للداعين وقال الضحاك: هو للداعين والمدعوين جميعًا، وقيل: هو للمدعوين فقط وليس بشيء.والظاهر أن الرؤية بصرية ورؤية العذاب إما على معنى رؤية مباديه أو على معنى رؤيته نفسه بتنزيله منزلة المشاهد، وجوز أن تكون علمية والمفعول الثاني محذوف أي رأوا العذاب متصلًا بهم أو غاشيًا لهم أو نحو ذلك. وأنت تعلم أن حذف أحد مفعولي أفعال القلوب مختلف في جوازه وتقدم آنفًا عن البعض أن الأكثرين على المنع فمن منع وقال في بيان المعنى ورأوا العذاب متصلًا بهم جعل متصلًا حالًا من العذاب {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} لو شرطية وجوابها محذوف أي لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب لدفعوا به العذاب أو لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين مؤمنين لما رأوا العذاب.واعترض بأن الدال على المحذوف رأوا العذاب وهو مثبت فلا يقدر المحذوف منفيًا وهو غير وارد لأن الالتفات إلى المعنى وإذا جاز الحذف لمجرد دلالة الحال فإذا انضم إليها شهادة المقال كان أولى وأولى، وجوز أن تكون {لَوْ} للتمني أي تمنوا لو أنهم كانوا مهتدين فلا تحتاج إلى الجواب وقال صاحب التقريب: فيه نظر إذ حقه أن يقال لو كنا إلا أن يكون على الحكاية كاقسم ليضربن أو على تأويل رأوا متمنين هدايتهم.وجوز على تقدير كونها للتمني أن يكون قد وضع لو أنهم كانوا مهتدين موضع تحيروا لرؤيته كان كل أحد يتمنى لهم الهداية عند ذلك الهول والتحير ترحمًا عليهم أو هو من الله تعالى شأنه على المجاز كما قيل: في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ واتقوا لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ الله خَيْرٌ} [البقرة: 103]، وجعل الطيبي وضعه موضعه من إطلاق المسبب على السبب لأن تحيرهم سبب حامل على هذا القول.وقال عليه الرحمة: إن النظم على هذا الوجه ينطبق، واختار الإمام الرازي أنهاش رطية إلا أنه لم يرتض ما قالوه في تقدير الجواب فقال بعد نقل ما قالوه: وعندي أن الجواب غير محذوفة، وفي تقريره وجوه أحدها: أن الله تعالى إذا خاطبهم بقوله سبحانه: {ادعوا شُرَكَاءكُمْ} فهناك يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر والدوار فيصيرون بحيث لا يبصرون شيئًا، فقال سبحانه: ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يبصرون شيئًا على معنى أنهم لم يروا العذاب لأنهم صاروا بحيث لا يبصرون شيئًا، وثانيها: أنه تعالى لما ذكر عن الشركاء وهي الأصنام إنهم لا يجيبون الذين دعوهم قال في حقهم: {وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} أي هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين، ولكنها ليست كذلك، والإتيان ضير العقلاء على حسب اعتقاد القوم بهم، وثالثها: أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب أي والكفار علموا حقية هذا العذاب لو كانوا يهتدون وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب لو محذوف فإن ذلك يقتضي تفكيك نظم الآية اه ولعمري أنه لم يأت بشيء وما يرد عليه أظهر من أن يخفى على من له أدنى تمييز بين الحي واللي..تفسير الآية رقم (65): {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)}{وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين} عطف على الأول سئلوا أولًا عن إشراكهم لأنه المقصود من {أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ} [القصص: 62]، وثانيًا عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك..تفسير الآية رقم (66): {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)}{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانباء يَوْمَئِذٍ} أصله فعموا عن الأنباء أي لم يهتدوا إليها، وفيه استعارة تصريحية تبعية حيث استعير العمى لعدم الاهتداء ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم وضمن العمى معنى الخفاء فعدى بعلى ولولاه لتعدى بعن ولم يتعلق بالأنباء لأنها مسموعة لا مبصرة، وفي هذا القلب دلالة على أن ما يحضر الذهن يفيض عليه ويصل إليه من الخارج ونفس الأمر إما ابتداءً وإما بواسطة تذكر الصورة الواردة منه بأماراتها الخارجية فإذا أخطأ الذهن الخارج بأن لم يصل إليه لانسداد الطريق بينه وبينه بعمى ونحوه لم يمكنه إحضار ولا استحضار، وذلك لأنه لما جعل الأنباء الواردة عليهم من الخارج عميًا لا تهتدي دل على أنهم عمي لا يهتدون بالطريق الأولى لأن اهتداءهم بها فإذا كانت هي في نفسها لا تهتدي فما بالك بمن يهتدي بها كذا قيل: فليتدبر، وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخيلية أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم لا تهتدي إليهم، والمراد بالأنباء إما ما طلب منهم مما أجابوا به الرسل عليهم السلام أو ما يعمها وكل ما يمكن الجواب به، وإذا كانت الرسل عليهم السلام يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك في ذلك المقام الهائل ويفوضون العلم إلى علام الغيوب مع نزاهتهم عن غائلة المسؤول فما ظنك بأولئك الضلال من الأمم.وقرأ الأعمش. وجناح بن حبيش. وأبو زرعة بن عمرو بن جرير {فَعُمّيَتْ} بضم العين وتشديد الميم.{فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ} أي لا يسأل بعضهم بعضًا لفرط الدهشة أو العلم بأن الكل سواء في الجهل، والفاء إما تفصيلية أو تفريعية لأن سبب العمى فرط الدهشة.وقرأ طلحة {لا} بإدغام التاء في السين..تفسير الآية رقم (67): {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)}{يَتَسَاءلُونَ فَأَمَّا مَن تَابَ} أي من الشرك {وَامَنَ وَعَمِلَ صالحا} أي جمع بين الإيمان والعمل الصالح {فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين} أي الفائزين بالمطلوب عنده عز وجل الناجين عن المهروب و{عَسَى} للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب المذكور عنى فليتوقع أن يفلح، وقوله تعالى: {فَأَمَّا} قيل لتفصيل المجمل الواقع في ذهن السامع من بيان ما يؤول إليه حال المشركين، وهو أن حال من تاب منهم كيف يكون، والدلالة على ترتب الإخبار به على ما قبله فالآية متعلقة بما عندها.وقال الطيبي: هي متعلقة بقوله تعالى: {أَفَمَن وعدناه وَعْدًا حَسَنًا} [القصص: 61] والحديث عن الشركاء مستطرد لذكر الإحضار، وتعقبه في الكشف بأن الظاهر أنه ليس متعلقًا به بل لما ذكر سبحانه حال من حق عليه القول من التابع والمتبوع قال تعالى شأنه حثًا لهم على الإقلاع: {فَأَمَّا مَن تَابَ مِنْهُمْ وَامَنَ} فكأنه قيل: ما ذكر لمصيرهم فأما من تاب فكلا..تفسير الآية رقم (68): {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)}{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء} خلقه من الأعيان والأعراض {وَيَخْتَارُ} عطف على يخلق، والمعنى على ما قيل يخلق ما يشاؤه باختياره فلا يخلق شيئًا بلا اختيار، وهذا مما لم يفهم مما يشاء فليس في الآية شائبة تكرار، وقيل في دفع ما يتوهم من ذلك غير ما ذكر مما نقله ورده الخفاجي ولم يتعرض للقدح في هذا الوجه، وأراه لا يخلو عن بعد ولي وجه في الآية سأذكره بعد إن شاء الله تعالى.{مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} أي التخير كالطيرة عنى التطير وهما والاختيار عنى، وظاهر الآية نفي الاختيار عن العبد رأسًا كما يقوله الجبرية، ومن أثبت للعبد اختيارًا قال: إنه لكونه بالدواعي التي لو لم يخلقها الله تعالى فيه لم يكن كان في حيز العدم، وهذا مذهب الأشعري على ما حققه العلامة الدواني قال: الذي أثبته الأشعري هو تعلق قدرة لعبد وإرادته الذي هو سبب عادي لخلق الله تعالى الفعل فيه، وإذا فتشنا عن مبادئ الفعل وجدنا الإرادة منبعثة عن شوق له وتصور أنه ملائم وغير ذلك من أمور ليس شيء منها بقدرة العبد واختياره، وحقق العلامة الكوراني في بعض رسائله المؤلفة في هذه المسألة أن مذهب السلف أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى وأن له اختيارًا لكنه مجبور باختياره وأدعى أن ذلك هو مذهب الأشعري دون ما شاع من أن له قدرة غير مؤثرة أصلًا بل هي كاليد الشلاء ونفي الاختيار عنه على هذا نحوه على ما مر فإنه حيث كان مجبورًا به كان وجوده كالعدم، وقيل: إن الآية أفادت نفي ملكهم للاختيار ويصدق على المجبور باختياره بأنه غير مالك للاختيار إذ لا يتصرف فيه كما يشاء تصرف المالك في ملكه، وقيل: المراد لا يليق ولا ينبغي لهم أن يختاروا عليه تعالى أي لا ينبغي لهم التحكم عليه سبحانه بأن يقولوا لم لم يفعل الله تعالى كذا.ويؤيده أن الآية نزلت حين قال الوليد بن المغيرة {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] أو حين قال اليهود لو كان الرسول إلى محمد صلى الله عليه وسلم غير جبريل عليه السلام لآمنا به على ما قيل، والجملة على هذا الوجه مؤكدة لما قبلها أو مفسرة له إذ معنى ذلك يخلق ما يشاء ويختار ما يشاء أن يختاره لا ما يختاره العباد عليه ولذا خلت عن العاطف وهي على ما تقدم مستأنفة في جواب سؤال تقديره فما حال العباد أو هل لهم اختيار أو نحوه؟ فقيل: إنهم ليس لهم اختيار، وضعف هذا الوجه بأنه لا دلالة على هذا المعنى في النظم الجليل وفيه حذف المتعلق وهو على الله تعالى من غير قرينة دالة عليه، وكون سبب النزول ما ذكر ممنوع، والقول الثاني فيه يستدعي بظاهره أن يكون ضمير لهم لليهود وفيه من البعد ما فيه، وقيل: {مَا} موصولة مفعول يختار والعائد محذوف، والوقف على يشاء لا نافية، والوقف على يختار كما نص عليه الزجاج.وعلي بن سليمان. والنحاس كما في الوجهين السابقين أي ويختار الذي كان لهم فيه الخير والصلاح، واختياره تعالى ذلك بطريق التفضل والكرم عندنا وبطريق الوجوب عند المعتزلة، وإلى موصولية ما وكونها مفعول يختار ذهب الطبري إلا أنه قال في بيان المعنى عليه: أي ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس، وأنكر أن تكون نافية لئلا يكون المعنى أنه لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، وادعى أبو حيان أنه روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما معنى ما ذهب إليه، واعترض بأن اللغة لا تساعده لأن المعروف فيها أن الخيرة عنى الاختيار لا عنى الخير وبأنه لا يناسب ما بعده من تعالى قوله: {سبحان الله} إلخ، وكذا لا يناسب ما قبله من قوله سبحانه: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء}، وضعفه بعضهم بأن فيه حذف العائد ولا يخفى أن حذفه كثير. وأجيب عما اعترض به الطبري بأنه يجوز أن يكون المراد عونة المقام استمرار النفي؛ أو يكون المراد ما كان لهم في علم الله تعالى ذلك، وهذا بعد تسليم لزوم كون المعنى ما ذكره لو أبقى الكلام على ظاهره. وقال ابن عطية: يتجه عندي أن يكون ما مفعول يختار إذا قدرنا كان تامة أي إن الله تعالى يختار كل كائن ولا يكون شيء إلا بإذنه وقوله تعالى: {لَهُمُ الخيرة} جملة مستأنفة معناها تعديد النعمة عليهم في اختيار الله سبحانه لهم لو قبلوا وفهموا اه.يعني والله تعالى أعلم أن المراد خيرة الله تعالى لهم أي اختياره لمصلحتهم. وللفاضل سعدي جلبي نحو هذا إلا أنه قال في قوله تعالى: {لَهُمُ الخيرة} إنه في معنى ألهم الخيرة بهمزة الاستفهام الإنكاري، وذكر أن هذا المعنى يناسبه ما بعد من قوله سبحانه: {سبحان الله} إلخ فإنه إما تعجيب عن إثبات الاختيار لغيره تعالى أو تنزيه له عز وجل عنه، ولا يخفى ضعف ما قالاه لما فيه من مخالفة الظاهر من وجوه. ويظهر لي في الآية غير ما ذكر من الأوجه، وهو أن يكون يختار معطوفًا على يخلق والوقف عليه تام كما نص عليه غير واحد وهو من الاختيار عنى الانتقاء والاصطفاء وكذا الخيرة عنى الاختيار بهذا المعنى والفعل متعد حذف مفعوله ثقة بدلالة ما قبله عليه أي ويختار ما يشاء، وتقديم المسند إليه في كل من جانبي المعطوف والمعطوف عليه لإفادة الحصر، وجملة ما كان لهم الخيرة مؤكدة لما قبلها حيث تكفل الحصر بإفادة النفي الذي تضمنته، والكلام مسوق لتجهيل المشركين في اختيارهم ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة والشفاعة لهم يوم القيامة كما يرمز إليه{ادعوا شُرَكَاءكُمْ} [القصص: 64] وللتعبير بما وجه ظاهر، والمعنى وربك لا غيره يخلق ما يشاء خلقه وهو سبحانه دون غيره ينتقي ويصطفي ما يشاء انتقاءه واصطفاءه فيصطفي مما يخلقه شفعاء ويختارهم للشفاعة ويميز بعض مخلوقاته جل جلاله على بعض ويفضله عليه بما شاء ما كان لهؤلاء المشركين أن ينتقوا ويصطفوا ما شاءوا ويميزوا بعض مخلوقاته تعالى على بعض ويجعلوه مقدمًا عنده عز وجل على غيره لأن ذلك يستدعي القدرة الكاملة وعدم كون فاعله محجورًا عليه أصلًا وأنى لهم ذلك فليس لهم إلا اتباع اصطفاء الله تعالى وهو جل وعلا لم يصطف شركاءهم الذين اصطفوهم للعبادة والشفاعة على الوجه الذي اصطفوهم عليه فما هم إلا جهال ضلال صدوا عما يلزمهم وتصدوا لما ليس لهم بحال من الأحوال، وإن شئت فنزل الفعل منزلة اللازم وقل المعنى وربك لا غيره يخلق ما يشاء خلقه وهو سبحانه لا غيره يفعل الاختيار والاصطفاء فيصطفي بعض مخلوقاته لكذا وبعضًا آخر لكذا ويميز بعضًا منها على بعض ويجعله مقدمًا عنده تعالى عليه فإنه سبحانه قادر حكيم لا يسأل عما يفعل وهو جل وعلا أعظم من أن يعترض عليه وأجل، ويدخل في الغير المنفي عنه ذلك المشركون فليس لهم أن يفعلوا ذلك فيصطفوا بعض مخلوقاته للشفاعة ويختاروهم للعبادة ويجعلوهم شركاء له عز وجل ويدخل في الاختيار المنفي عنهم ما تضمنه قولهم {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] فإن فيه انتقاء غيره صلى الله عليه وسلم من الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي وتمييزه بأهلية تنزيل القرآن عليه فإن صح ما قيل: في سبب نزول هذه الآية من أنه القول المذكور كان فيها رد ذلك عليهم أيضًا إلا أنها لتضمنها تجهيلهم باختيارهم الشركاء واصطفائهم إياهم آلهة وشفعاء كتضمنها الرد المذكور جيء بها هنا متعلقة بذكر الشركاء وتقريع المشركين على شركهم، ورا يقال: إنها لما تضمنت تجهيلهم فيما له نوع تعلق به تعالى كاتخاذ الشركاء له سبحانه وفيما له نوع تعلق بخاتم رسله عليه الصلاة والسلام كتمييزهم غيره عليه الصلاة والسلام بأهلية الإرسال إليه وتنزيل القرآن عليه جيء بها بعد ذكر سؤال المشركين عن إشراكهم وسؤالهم عن جوابهم للمرسلين الناهين لهم عنه الذين عين أعيانهم وقلب صدر ديوانهم رسوله الخاتم لهم صلى الله عليه وسلم فلها تعلق بكلا الأمرين إلا أن تعلقها بالأمر الأول أظهر وأتم وخاتمتها تقتضيه على أكمل وجه وأحكم.ورا يقال أيضًا: إن لها تعلقًا بجميع ما قبلها، أما تعلقها بالأمرين المذكورين فكما سمعت، وأما تعلقها بذكر حال التائب فمن حيث أن انتظامه في سلك المفلحين يستدعي اختيار الله تعالى إياه واصطفاءه له وتمييزه على من عداه، ولذا جيء بها بعد الأمور الثلاثة وذكر انحصار الخلق فيه تعالى وتقديمه على انحصار الاختيار والاصطفاء مع أن مبنى التجهيل والرد إنما هو الثاني للإشارة إلى أن انحصار الاختيار من توابع انحصار الخلق، وفي ذكره تعالى بعنوان الربوبية إشارة إلى أن خلقه عز وجل ما شاء على وفق المصلحة والحكمة وإضافة الرب إليه صلى الله عليه وسلم لتشريفه عليه الصلاة والسلام وهي في غاية الحسن إن صح ما تقدم عن الوليد سببًا للنزول، ويخطر في الباب احتمالات أخر في الآية فتأمل فإني لا أقول ما أبديته هو المختار كيف وربك جل شأنه يخلق ما يشاء ويختار {سبحان الله} أي تنزه تعالى بذاته تنزهًا خاصًا به من أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره عز شأنه {وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية ويحتمل أن تكون موصولة بتقدير مضاف أي عن مشاركة ما يشركونه به كذا قيل، وجعل بعضهم {سبحان الله} تعجيبًا من إشراكهم من يضرهم بمن يريد لهم كل خير تبارك وتعالى وهو على احتمال كون {مَا} فيما تقدم موصولة مفعول يختار، والمعنى ويختار ما كان لهم فيه الخير والصلاح، ويجوز أن يكون تعجيبًا أيضًا من اختيارهم شركاءهم الذين أعدوهم للشفاعة وإقدامهم على ما لم يكن لهم وذلك بناءً على ما ظهر لنا وظاهر كلام كثير أن الآية ليست من باب الإعمال، وجوز أن تكون منه بأن يكون كل من سبحان وتعالى طالبًا عما يشركون والأفيد على ما قيل أن لا تكون منه.
|